سيدة الجذب وسفينة الخروج

سيدة الجذب وسفينة الخروج

تواعدت المجذوبة وسيدة الفانتازيا على طبق من التبولة وزوجة عارف تجيدها وكثيراً ما كان يقول لسيدة الفانتازيا:‏

ـ بتاكلي أصابعك من ورا تبولة المجذوبة فتجيب:‏

ـ على أن أشتري أصابع جديدة وأركبها في كفي كل مرة آتي إلى هنا وآكل التبولة فيضحك عارف وتضحك المجذوبة.‏

إلا أن مواعدة المجذوبة وسيدة الفانتازيا هذه المرة لم تكن رغبة في التبولة فحسب، سيدة الفانتازيا تبحث عن الجزء المنزوع من المخطوطة.. وباقيها يمكن أن تطلع عليه فقد أوصى عارف المجذوبة زوجته أن تمنح سيدة الفانتازيا عنايتها، وأن تسمح لها بالدخول إلى مكتبته متى شاءت إذا أرادت أن تقرأ بعضاً من كتبه القيمة التي جلبها معه من أمريكا.‏

ووقتت سيدة الفانتازيا زيارتها للمجذوبة في وقت يكون فيها عارف في الجامعة يعطي المحاضرات.‏

طرقت الباب فأدخلتها المجذوبة وعانقتها مقبلة، وقالت فنجان القهوة على النار، والتبولة جاهزة في البراد. لكنني لم أخلطها بعد ولم أشربها بالزيت والحمض حتى لا تذهب طراوتها ويتغير طعمها قولي لي متى تشعرين بالجوع فأنا حاضرة.‏

ذهبت المجذوبة لإحضار فنجان القهوة، ووقعت سيدة الفانتازيا على رسائل معبرة وهي تتفقد مكتبة عارف.‏

لقد أكملت سيدة الفانتازيا دراستها العليا في لندن، وتعرف جيداً أن الهجرة إلى أمريكا تصهر المهاجر في المجتمع الجديد والأرض الجديدة، بما توفره لـه من تكافؤ الفرص والإمكانات المفتوحة التي لا نهاية لها. فكيف استطاع عارف أن يعود، أن يقوم بهجرة معاكسة إلى الوطن بعد تجربة تعادل الربع قرن؟!‏

جاءت إليها المجذوبة بفنجان القهوة فأبصرت في يدها الرسالة والحيرة على وجهها. جلستا في الكراسي المريحة في مكتب عارف، وأخذا يرشفان القهوة. فقالت المجذوبة:‏

لا تستغربي ما في تلك الرسالة، فأنا الزوجة الثانية لعارف.. لقد ترك كل شيء بناه في خمسة عشر عاماً في الولايات المتحدة، وعاد إلى الوطن لا يحمل معه إلا خبرته ومخطوطات أعماله الإبداعية والأكاديمية. وترك منزلاً كبيراً لأسرته هناك ورصيداً جيداً في البنك. لم يكن سعيداً فترك كل شيء وعاد.‏

تزوجنا في دمشق وأقمنا حفلاً عائلياً رائعاً في دارنا الدمشقية التي احتل محلها الآن عمارة علب إسمنتية لنا فيها شقة.‏

إلا أن عارف رجع إلى الشام وعاش قرابة العام في تلك الدار قبل أن تهدم وتعمر أرضها بعشرات الشقق.‏

لكننا قضينا شهر العسل في بيروت؟!‏

فقالت سيدة الفانتازيا باستغراب: في بيروت.‏

فأجابتها المجذوبة نعم في بيروت وفي أحضان السيارات المفخخة!!‏

أخذنا شقة في فندق نابليون في رأس بيروت وعشنا سنتين وأنجبنا ابنتنا الكبرى وكافحنا كفاحاً مريراً، إلا أننا وجدنا في تلك المرارة سعادة لا توصف.‏

فعارف يكتب يومياً، أنهى كتاباً رائعاً عن الشهداء وأصدر مجموعة شعرية وعدة دراسات بالعربية والإنجليزية.‏

ولكن عندما حميت الحديدة، وهاجمت إسرائيل جنوب لبنان أعادني عارف إلى الدار الدمشقية ورجع إلى بيروت ولم يخرج منها إلا بعد الحصار في السفن مع المقاتلين إلى قبرص فطرطوس يحمل معه جديد أوراقه ويبحر عائداً إلى الوطن في سفينة يونانية لشركة تنقل الخراف. لا يذكر منها عارف غير رائحة روث الغنم والطرادات الأمريكية التي تحرس السفينة من عن يمين وشمال خوفاً من انتقام الإسرائيليين وتعديهم، وهو ينشد قصيدة "سيدة البحر" عن بيروت الحصار على المقاتلين.‏

سيدة الفانتازيا.. أنا لا أفهم عارف كيف يحمل جوازاً أمريكياً ويحشر نفسه في سفينة نوح التي غرقت ولم تبصر اليابسة؟! أو خرجت من تيه إلى تيه.‏

فقالت المجذوبة.. كنا في بيروت يوم عرضت عليه السفارة الأمريكية أن ينتقل مع المواطنين الأمريكان إلى قبرص من جونيه لكنه رفض الأمرين.‏

أولاً.. كان المحاصرون من الفلسطينيين والجبهة الوطنية بحاجة إلى دعم معنوي، وكان يحس بالمسؤولية. كيف يمكن لـه أن يترك هؤلاء الشرفاء ويهرب؟! فقرر البقاء معهم.. وفي جلسات التوجيه المعنوي للمقاتلين كان الموجهون يقولون: هذا عارف لم يخرج من بيروت ويترك الساحة رغم حماية جوازه الأمريكي.‏

ثانياً: وحين وصلت السفينة إلى طرطوس وقفت في البحر أضعاف المدة من بيروت إلى قبرص إلى طرطوس حسب الاتفاق الذي وقعته منظمة التحرير استوقفه في الميناء صحفي أمريكي، ربما لأنه كهل وسأله من أنت وما شعورك.. أجابه على الفور أنا مواطن أمريكي، من أصل سوري فقال وما تصنع هنا في سفينة المقاتلين مع فرقة الصاعقة؟! فقال: أدفع حياتي ثمناً لهذه الخبرة التاريخية وأشاطر شعبي هذه المأساة، فشكره الصحفي ومضى أكثر دهشة.‏

لكن يا للعار.. حين مضى عارف إلى مخفر الميناء المحشو بأفراد الشرطة العسكرية وطلب أذناً من الضابط المناوب أن يترك السفينة, فسأله الضابط المناوب: لماذا فأجابه عارف: أنا أمريكي من أصل سوري.. فقال الضابط في لؤم جئت في السفينة من أجل التجسس.. ورفض أن يسمح لـه بالخروج من الميناء.. بعد عامين من الكفاح وغربة ربع قرن عن الوطن يأتي هذا ا لضابط الأحول الفكر ويتهمه بالتجسس!! لكن الضابط على ما يبدو أراد أن يرمي مسؤولية مثل هذا الشك والظن على كتف غيره. فقال لعارف: أمض مع المقاتلين إلى دمشق وهناك راجع ضابطية المعسكر الذي ينزلون فيه!! واستقل عارف باصاً من الباصات المتوجهة إلى دمشق وحين وصل إلى مفرق المعسكر طلب من رجل المخابرات الذي رافق الباص ألا يتوجه إلى المعسكر.‏

وأوضح لـه أنه صحيح جاء في السفينة لكنه ليس من أفراد الصاعقة، وأنه مواطن سوري من دمشق وأبرز لـه هويته التي يحتفظ بها فتعاطف معه ذلك الرجل لكنه استأذن من رئيسه قبل أن يخلي سبيل عارف. فأذن له..‏

وفي ليل ذلك اليوم كان عارف في دارنا الدمشقية التي تزوجنا فيها وقضى جزءاً من طفولته في رحابها لأن أمي وأمه أولاد خالة، وكان أبي على صلة حميمة بعارف، يتوسم فيه النجابة وهو فتى ويتمنى لـه العودة من المنفى وهو في سني النضج.‏

كانت أمي تقول لـه أثناء زيارته الصيفية قبل قرار العودة: لماذا لا ترجع من المهجر، فأزوجك ابنتي دون أن تعين أية واحد منهن. أما كفاك غربة يا عارف؟! فكان يبتسم ويقول: ألست متزوجاً؟! فتجيب أمي تتزوج من الرحاب التي رعتك وأرضعتك حليب العز.. ولم يكن عارف يدري أن الجذب سوف يشده إلى المجذوبة.. فضحكتا معاً.‏

فقالت سيدة الفانتازيا للمجذوبة: أرني صوركم في الخطبة وحفلة العرس، فسحبت المجذوبة الألبوم من مكانه في المكتبة وأخذت تريه الصور، وحين وصلت إلى صور أم عارف وقفت طويلاً تتأمل وجهها الذي طعن في السن وطاعن الدهر. فوقعت على وريقات مع صورها كتبها عارف بعنوان: "وجه أمي" يصف فيها أمه. وبعد أن تقرأها للمجذوبة تعلق عليها هذه وتقول:‏

ـ إني أحس بالغيرة من هذه المخطوطة، أود لو أنني أنا التي أحرقها لا هو، إنها تفصل بيني وبينه، إنه يعتني بها ويهملني فكيف أكون إذن ولادته الثانية؟!‏

ـ ألست جزءاً لا يتجزأ من حياته وأيامه؟!‏

ـ نعم لكن لماذا عليه أن يدونها ويفضحنا ويفضح نفسه أمام العالم.. ولماذا ينتزع منها صفحات ويحرق منها أخرى أليست مجلبة للعار؟!‏

فلماذا إذن يحرقها أو يخبئها في درج مختوم؟!‏

ـ السؤال هو هذا لماذا لا نكسر هذا الدرج المختوم؟! فنعرف حقيقة ماذا يخبئ ونفسر غرابة أطواره على قولك أنت. هذه الغرابة التي تكلفك وتكلفه السعادة؟‏

ـ إن هو إلا ماض ميت فلماذا يحييه بالورق وبالحبر فيتجسد كلمة كانت منذ البدء؟!‏

ـ سعادتك أنت هي الأولى.. وصلنا إلى نصف الطريق فلماذا لا نكمله.. "وصلتينا لنصف البئر وقطعت الحبلة فينا.. ويلي ويلي".‏

تقتنع سيدة الفانتازيا بتصلب المجذوبة. وقررت أن تستخدم نفوذها عليها فأخذت الشاكوش وحاولت أن تفتح الدرج بالقوة.‏

وفيما هما على هذه الحال يعود عارف من الجامعة وتقلع سيدة الفانتازيا عما هي فيه ويتظاهران هي وزوجته بشرب القهوة.‏

يدخل عارف ويسلم عليهما قائلاً: لم أرك منذ زمن اليوم تتعشين معنا ونقضي السهرة هنا ونكمل ما بدأناه منذ زمن.‏

يا الله يا سيدة الجذب هيئي لنا عشاء طيباً من تحت دياتك بينما أري سيدة الفانتازيا هذه الكاميرا التي عندي.‏

تذهب المجذوبة لتحضير العشاء، ويتناول عارف كاميرا من على رف المكتبة ويقول: دعيني آخذ لك صورة بهذه الكاميرا.. إنها كاميرا لها تاريخ.. أخذت كثيراً من صور الألبوم بهذه الكاميرا!! ويأخذ صورتها.‏

قبل أن تخبرني عن تاريخ هذه الكاميرا. أخرج أبو نمر من البئر!!‏

ـ وصلتم إلى ذلك الحد!! من قراءة المخطوطة؟!‏

ـ نعم، صنعتم بي ما يصنعه القصاص الشعبي بمستمعيه في مقهى المدينة.‏

ـ وكيف ذلك؟‏

ـ يحبك عقدة أبطاله ويصل إلى الذروة، يضعهم في مأزق. ويقف عنده حتى الحلقة التالية..‏

ـ هكذا هو سر المهنة وفن الصنعة.‏

ـ ألا أخرجت أبو نمر من البئر، هل أرشوك كي تفعل، كما فعل مستمعو القصاص الشعبي ليخرج عنترة من الأسر؟!‏

ـ لو أنك تعلمين عنترة تحرر، وحرر قبيلته وقومه، وحرر عبلة!!‏

ـ وأبو نمر.‏

ـ مسكين أبو نمر تحرر، ولكنه كان أتعس حظاً من عنترة!!‏

ـ أ لا تخرجه من البئر قبل أن يصقع حتى الموت؟!‏

ـ ستعرفين ذلك، كل شيء بأوان.‏

تاريخ هذه الكاميرا يرتبط بالبندقية التي حلم بها أبو نمر، لكنه لم ينلها؟!‏

ـ كيف ذلك.‏

ـ قال اصبري، أخرج غليونه وحشاه بالتبغ، وأشعله على مهل، يتراوح بندول فكره بين الحاضر والماضي يتمثل واحدهما في الآخر حتى إذا استقر يعود سيرته من جديد.‏

يخيل لعارف أنه لم يكن غير أبي نمر آخر، البئر التي كمن فيها أبو نمر تحاصره في زمن آخر. هل يخرج منها كما يتألق الماء أم يموت من الجوع والعطش في عتمة كان ينتظر منها ولادة الفجر.‏

أمه هزمت الزمان بالعمل الدؤوب على ماكينة سنجر، هل تتعلم درية بنت أبي نمر كيف تهزم الزمان الذي قارعه أبوها بوجوه مكعبة تطلع على بيارات يافا جراداً يكفنها بالجفاف.‏

تك تك تك بارودة أبو نمر.‏

تك تك تك مكنة أم عارف.‏

تك تك تك يستمر الزمان مع عارف ودرية.‏

وأروع من ذلك كله حين تنقل أمه معرفتها إلى درية بنت أبي نمر فتعلمها التطريز لوجه الله دون أن تتقاضى منها أجراً وهي تقول:‏

لقد ضحى أبو نمر بكل ما يملك، أفلا نضحي نحن بشيء مما نملك..‏

وقطعته سيدة الفانتازيا عن تأملاته قائلة: بمن تفكر يا عارف، بأبي نمر أم بدرية؟! وتدخل هنا المجذوبة ملتقطة ما سمعته من درية قائلة: درية يا بهاءك يا درية.‏

وهنا يستسمح عارف ويخرج.‏

وتضيف المجذوبة كلامها قائلة:‏

أنا أعرفها درية هذه كانوا جيراناً لنا في زمن الخير.. وكان والدي صديقاً حميماً لوالدها.‏

فاستفهمت سيدة الفانتازيا: ألم يكن عارف الفتى يسهر عنده هو وأترابه على ما ذكره مرة..‏

ـ بلى كان أبو هشام والدي هو الذي زوجني بعارف بعد عودته من أمريكا.. ووالدي هو الذي أعان أبو نمر في زمن العسر كما أعانت أم عارف درية. فقالت سيدة الفانتازيا: أذكر أنني وقعت في المخطوطة على "النمر والبئر" فلماذا لا نتثبت منها عن حقيقة الأمر.‏

قالت المجذوبة:‏

أنا أعرف القصة بتمامها لأنها وقعت في بيتنا، وما أزال أذكر من زمن الطفولة درية ووجه أبي نمر كأنما قد من صخر قاسيون.‏

فقالت سيدة الفانتازيا: لك ما شئت لماذا لا تروي لنا القصة فنقارنها بنص ما رواه عارف!!‏

أو أقول لك هات المخطوطة نتعاون عليها. وبعد سماعها تؤطرينها أنت بالذاكرة.. فتقول المجذوبة نص عارف جديد علي ولكن لا بأس ذاكرتان خير من ذاكرة واحدة.‏

فتجيبها سيدة الفانتازيا: دعيني أقرأ وإذا أسعفتك ذاكرتك باجتهادات أخرى فلا تحجبيها عني.‏

فقالت المجذوبة: سعاد هذه جديدة عليّ، منذ فقس عارف من البيضة وروحه معلقة بالمرأة!!‏

فأجابت سيدة الفانتازيا.. إنها مرحلة الولدنة لا تعطيها أي اعتبار.‏

ـ إنك تدافعين عنه ولدنه أن يهديها خاتماً ويعطيها عهداً.‏

ـ تتكلمين عن جد!!‏

ـ ولم لا.. أنا أولاً.. ولو في الماضي.‏

ـ صحيح أنك مجذوبة.. لم يكن قد تعرف عليك في ذلك الوقت، ولم تخطري في خياله. حتى عاد من المنفى.‏

ـ صحيح لكن أصر حتى ماضيه لي وهو مسؤول عن ذلك.‏

فضحكتا معاً يبن المزح والجد. فقالت سيدة الفانتازيا: اتركينا من سعاد ودرية وعليك بأبي نمر.. ما الذي جرى؟‏

الأفضل أن يرويها عارف لكني سأتقدم عليه برواية الشيخ جزو وقتيل الجبل لأنها بمثابة تمهيد إلى النمر والبئر.‏

فقالت سيدة الفانتازيا ومن هو جزو هذا ومن أين جاء اسمه؟ فقالت المجذوبة: ربما من جز الصوف وهي مهنته أو مهنة أسرته هو لصيق بالطبيعة وقواها، لا يتكسب بدينه مثل الشيخ علي ومغارة الدم بل يتيح بركة غربته ومحبته لكل الناس. ثم تشرع المجذوبة بسرد الحكاية.‏